ترددت كثيراً وأنا أبدأ في الكتابة، وقلمي في يدي، وهي ترتجف، وعيني قد أصابها الرمد من كثرة البكاء، حزناً على فراق أعز مخلوق بعد رسول الله، ولم يعد بإمكاني تمييز الحروف التي تتهاوى مثلي حزينة، واختلط دمعي بمداد كلماتي، وربما سيخرج المقال كلوحة فنان يطغى عليها لون السواد وهو مجبر أمام جمهوره بإنجازها في يوم عصيب دفن فيه أمه قافلاً من أرض المقابر وقلبه محطم مكسور ليقاسي ألم الفراق والوحدة.
ثلاثة عشر عاماً مضى على نحر أمي الغالية أمام ناظري، ومازال المشهد لم يفارقني، مشهد تقشعر له الأبدان، وهو ليس ككل الأحزان والمواقف والمشاهد.
بغداد أم ليس ككل الأمهات، فقد تعسرت كثيراً مع كل مخاض، فقد أنجبت رجالاً كثيرين ونساء، كانت تتباهى بهم بين الشعوب والأمم ولم يعجب الأعداء حسنها ونضارتها وتفوق أولادها، فحسدوها لعنفوانها وشبابها، وهي قد تخطت ألف عام ومازالت جميلة نضرة ودودة ولودة، فتجمعوا حولها، وهي تأبى السقوط فنحروها، وهي واقفة شامخة كالنخلة الباسقة، وسال دمها الطاهر وروى أرض بابل وكربلاء والبصرة الفيحاء وموصل الحدباء والأنبار أم الشهداء وأربيل الشماء.
بغداد أم كباقي الأمهات، لاتعرف الغل والحقد، تحب وتحتضن جميع أولادها، ففي ذلك اليوم الرهيب قيدها الجزار وضربها ضربة قاصمة، طاشت منها الروح وهي تصرخ «وا إسلاماه وا محمداه وا عرباه!!!»، فمنا من جثى على ركبتيه، حزناً يتخنق في البكاء ويتوسل في الدمع، ليجري من مقلتيه ليريح ألم صدره الذي كاد أن يتكسر بتوقف نبض قلبه، ومنا من غشيه الموت حزناً، ومنا من فقد وعيه ومازال شارد الذهن، وشاهدنا حينها من كان يرقص فرحاً ويقبل يد الجزار ويده وسكينه مازالت تقطر دماً وهو يدعي سابقاً أنها أمه، وأشك أن بغداد الطاهرة ورحمها الطاهر يحمل ويجلب للحياة خونة وعملاء، حاشا لك يا عنوان العفة والطهر أن ينسب لك الخونة. إنهم دخلاء على بغداد وادعوا زوراً نسبهم لك، ربما هم من رحم المجوس أو الصهاينة، وتسللوا وعاشوا في بيتنا، ونحن كنا صغاراً لا نفقه من مكر آبائهم شيئاً، وأغدقت عليهم تلك الأم الحنون من عطفها وأرضعتهم من لبنها الطاهر، وحاولت التقريب والألفة بيننا وتناسينا أصلهم ولعبنا ولهونا معهم، ثم تصاهر بعضنا معهم لكن أصلهم النجس غلب عليهم، ولم تمنعهم الرضعات المشبعات، والحضن الدافئ، لأمنا بغداد من خيانتها وطعنها ونحرها وتناسوا أن ثلاث أو خمس رضعات مشبعات من صدر الأم يجعلهم في مقام الأخوة، فغدروا بنا بعدها وباشروا بنحرنا ومازالوا يلحقونا حقداً بأمنا فكل يوم تستقبل تلك الأم المئات من أولادها، وهي تبكيهم بصمت وتضمهم في قبرها كما ضمتهم حية في حضنها.
لقد نحرت بغداد بنفس المشهد وبنفس السكين ونفس اليد، التي طعن بها الخليفة عمر والخليفة عثمان والخليفة علي بخنجر مسموم رضوان الله عليهم أجمعين، ثم مزقت الأمة باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، فالعدو واحد والهدف واحد والخائن واحد ولا اختلاف إلا في الزمان والمكان.
حدثان جللان فجعت بهما الأمة الإسلامية وأسسا لانهيارها، أولاهما كان استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وآل بيته الأطهار، والثاني سقوط بغداد وتمكن المجوس منها.
لكن لا عليك حبيبتي بغداد، فقد أنجبت رجالاً ونساء نجباء، سيقتصون لثأرك، وستنهضي شابة مخمرة عفيفة، كما عهدناك من قبرك فكما أيد الله المسيح عليه السلام بمعجزة إحياء الموتى بإذنه، فلا شك أن هنالك من أولادك من قد نذروا أنفسهم لله ثم لك، وسيؤيدهم الله بكلمة منه، وسينفخ الله في روعك وستعودين عروسة جميلة سنزفك بعدها والمسلمون والعرب بتكبيرة سيهتز من قوتها جنبات الكون وسيتخلخل بصداها وتتهاوى عروش الظالمين لتتربعي على العرش مرفوعة الرأس كما عهدناك..
والله أكبر..