نعم.. إنه شهر رمضان؛ ولا يجوز بحال من الأحوال استفزاز مشاعر المسلمين التي صدمت بمذابح البوذيين ضد المسلمين في بورما أو مينامار، لكن.. المسلمون مضطهدون ويذبحون في بورما منذ ما يزيد عن 260 عاماً فما الجديد في (الفزعة) لهم هذا العام؟ الجديد باختصار؛ أن الصراع الأمريكي الصيني أوشك أن يبلغ ذروته، وأن مسلمي بورما مرشحون لأن يكونوا حجر شطرنج جديد يقتلُ فيه الحصانُ الأمريكي الفيلَ الصيني.
«1»
تقع بورما، أو ما يعرف حالياً بجمهوية اتحاد مينامار، في موقع استراتيجي شديد الأهمية، فلها امتداد سهل وهام في خليج البنغال، وتحدها ثلاث دول آسيوية من أكثر دول العالم تقدماً وسرعة في النمو هي الهند والصين وتايلاند، وعلى الرغم من حالة الفقر في بورما، إلا أنها تمتلك ثروات زراعية ومعدنية هائلة، فهي مُصدرة للأرز والأخشاب، ومناجمها تفيض بالزنك والرصاص والفضة، وأجود أنواع الياقوت الأحمر.
كانت بورما جزءاً من الهند وانفصلت عنها عام 1937م، ويتكون الشعب البورمي من عرقيات وديانات مختلفة، غالبية سكانها من البوذيين الذين تصل نسبتهم إلى حوال 80%، ويشكل المسلمون فيها نسبة تزيد عن 15% تعود جذور بعضهم إلى أصول عربية من اليمن والجزيرة العربية والشام والعراق، ويقطن أكثر المسلمين في إقليم أركان، كما إن فيها أقليات مسيحية أخرى وأصولاً عرقية متداخلة من هندية وصينية وغيرها، والوضع الطائفي في بورما غير مستقر حيث تضطهد الغالبية البوذية باقي المكونات المسلمة والمسيحية، ولم تستطع بورما طوال تاريخها الحديث الوصول إلى مستوى مقبول من الانسجام والمواطنة بين عرقياتها وطوائفها المختلفة كما هو الحال في ماليزيا، وكثيراً ما تشارك الحكومة في اضطهاد الأقليات المسلمة والمسيحية وتعمل على تهجيرهم والتضييق عليهم.
«2»
ملف العلاقات الدولية في مينامار شائك ولاينفك عن الوضع السياسي المتوتر فيها وعن الهيمنة الاقتصادية للغرب في تلك المنطقة، وتدور أقطاب التوتر السياسي في بورما بين الحكومة الحالية التي يهيمن عليها العسكر والتي تعاني من مشكلات اقتصادية وسياسية معقدة والمعارضة البورمية التي تطالب بالإصلاح الاقتصادي والسياسي. والغرب، على رأسه أمريكا، يدعم المعارضة البورمية ويؤيد وصولها للحكم بقيادة الدكتورة “داو اونج سان سو كيي” التي تبنت ملف حقوق الإنسان في بورما، والتي خضعت للإقامة الجبرية عام 1988م بسبب موقفها من قضية الحريات والديمقراطية في بورما، ثم حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 1990م، وفاز حزبها بنسبة عالية في انتخابات 1990م، لكن الجيش رفض تسليمها منصب رئيس الوزراء، أما الصين فتدعم النظام الحاكم في بورما وتحاول دفعه نحو القيام بإصلاحات سياسية وفق النموذج الصيني.
ويفسر الخبراء والمحللون الصراع الصيني الغربي في بورما بأن الصين في رحلتها نحو التقدم تعمل على الاستثمار في المحيط الجغرافي لها لخلق سياج اقتصادي قوي يحميها من عمليات التطويق التي تعمد إليها أمريكا والتي بدأتها بالفعل باحتلال أفغانستان، فقامت الصين بتوسيع الشراكة الاقتصادية مع بورما للاستفادة من منافذها البحرية لتأمين التدفقات النفطية للصين عبر خليج البنغال في حال فرض حصار اقتصادي على منطقة بحر الصين، وفي هذا السياق تقوم الصين بتطوير ميناء بحري عميق وخط لأنابيب النفط وشبكة للنقل السريع تمتد من خليج البنغال إلى حدود بورما والصين في الشمال، كما انتهت الصين من إنشاء مشروع طريق سريع ضخم عبر التضاريس الجبلية لدولة لاوس، إحدى الدول المحيطة ببورما، يربط الصين بشمال شرق تايلاند، كما تقوم الصين وتايلاند ولاوس بتشييد خط سكة حديد يربط هذه الدول الثلاث لتشكل ما يشبه الإقليم الاقتصادي المتحد.
«3»
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990م، لم تنعم أمريكا كثيراً بنشوة تزعم العالم منفردة، إذ نهضت الصين قوة اقتصادية كبرى غزت أمريكا في عقر أسواقها مشكلة وتهديد جديد قد يؤثر على الهيمنة الاقتصادية الأمريكية للعالم، لذلك وجب حصار الصين، ولأن الحرب في جوهرها اقتصادية، فإن أسلحة أمريكا وأساطيلها العسكرية إنما توجه لوضع اليد على الثروات الاقتصادية في كافة أنحاء العالم ولقطع أي أيد أخرى تريد المشاركة في هذه الثروات.
إن ملف بورما قد يخضع للمساومات من أجل وصول حلفاء الغرب فيها للحكم، فزيارة هيلاري كلتنون لزعيمة المعارضة البورمية “داو اونج سان سو كيي” في منزلها، والوفود الغربية رفيعة المستوى التي تحج إليها لا يمكن النظر إليه إلا من باب التدخل في ملف حقوق الإنسان في بورما بما يصب في مصلحة أمريكا والغرب وبما يخدم ملف الصراع الأمريكي الصيني على حساب دماء تلك الشعوب البائسة، وفي حال تعقد الأمور داخلياً قد يخضع ملف حقوق الإنسان في بورما للتدويل فتفرض عقوبات اقتصادية على الحكومة البورمية، وربما يتم التدخل الخارجي بنشر قوات حفظ السلام أو محاصرة الشواطئ والحدود البورمية منعاً لتدفق السلاح لأي طرف كان، والهدف ليس المسلمون، بل الهدف التطويق على الصين وخنق تمددها الاقتصادي الذي أصبح يزعزع قوة الإمبراطورية الأمريكية.
إن المفاجأة (الصادمة) أن أخبار المجازر في بورما يجري تضخيمها من قبل جهات مجهولة!!، بل إن بعض التقارير على شبكة الإنترنت كشفت أن كثيراً من الصور التي يجري ترويجها إنما تعود لمذابح في أعوام سابقة، أو صور جثث لفيضان تسونامي، أو كوارث طبيعة وحوادث سير!!، وربما يكون بيننا فريق عربي أو إسلامي يعمل على تضخيم ملف بورما وإعدادنا نفسياً لتقبل أي تدخل غربي في بورما بل والمطالبة به من أجل حماية المسلمين من الإبادة.
«4»
ألا يذكرنا هذا بملف الثورات العربية؟ إن أمريكا والغرب يحاولون الدخول على خط حركة التغيير العربية لضمان موقع نفوذ في الخارطة العربية الجديدة، ففي ليبيا تسابق الغرب للتدخل عسكرياً في الثورة، ورفضت روسيا والصين هذا التدخل، وحين انتصرت الثورة في ليبيا احتكر الغرب النصيب الأكبر من النفط الليبي، في سوريا تحاول أمريكا وفرنسا تدويل القضية السورية وتستميت الصين وروسيا ضد أي تدخل غربي آخر، لأنه سينجم عنه بالتأكيد هيمنة غربية من نوع ما على سوريا الجديدة، ناهيك عما تعترف به المعارضة السورية من وجود طيف معارض يمَوّل من قبل أمريكا ويتلقى التوجيهات منها، وقبل كل هذا نتذكر التدخل الأمريكي في العراق حينما روج عملاء أمريكا للتغيير في العراق نحو الديمقراطية، ثم مزقوا العراق شر تمزيق، ويعمل حالياً أشباههم على استنساخ الحالة العراقية في البحرين.
«5»
لا يعني هذا الكلام نفي أي مجازر ضد المسلمين في بورما أو إنكار حالة الاضطهاد التي يعانون منها منذ سنوات طويلة، فالتاريخ البورمي شهد مجازر شنيعة ضد المسلمين وقعت في سنوات متفرقة، كما إن الأقلية المسلمة محرومة من كافة الحقوق المدنية وتعيش في بورما بلا مواطنة، فلا يحق للمسلمين العمل ولا الدراسة في بورما بل ولا حتى الزواج، وحين وافقت الحكومة البورمية على منح المسلمين حق توثيق الزواج فإنها عقّدت الإجراءات لتستمر حوالي ثلاث سنوات، وقد تنتهي برفض عقد الزواج، واشترطت على المسلمين عدم إنجاب أكثر من طفلين، وفي حال إنجاب الطفل الثالث لا يتم توثيقه في سجلات المواليد البورميين، إن المسلمين في بورما يتعرضون لإبادة عرقية تمتد جذورها التاريخية إلى أكثر من 260 عاماً، ولم يقدم لهم المسلمون دعماً ولم تلتفت إليهم منظمة الرابطة الإسلامية، فماذا يحدث اليوم؟
اليوم يفجر الغرب ملف الأقليات ويحرك القضية الطائفية في العالم كله باسم حقوق الإنسان، والهدف الرئيس هو خلق جيش من الطابور الخامس ينصبه حاكماً بالوكالة عنه في دول العالم الثالث تحت شعارات الوطنية والديمقراطية، لتنوب جحافل الطابور الخامس عن الغرب في إدارة مصالحه، أمريكا والغرب في تواطئهم مع دعاة حقوق الإنسان لا تعنيهم القضايا الوطنية ولا معاناة الشعوب، بل تعنيهم مصالحهم التي يزحفون لأجلها شمال العالم وجنوبه.
أمريكا تعمل على تحويل العالم إلى رقعة شطرنج تتنافس فيها على مصالحها مع الصين، والملف الذي تتاجر فيه هو ملف حقوق الإنسان الذي تُفجر من خلاله قضايا طائفية وعرقية تمزق النسيج الداخلي للأمم، إن الصمت عن دماء إخواننا المسلمين في بورما يعد استرخاصاً لدمائهم، ولكن الانجراف خلف المشروع الغربي والمشاركة فيه يعد متاجرة بدمائهم والتنازل عنها مجاناً لصالح أمريكا.