التعب والإرهاق يبدو على وجهه، الناس «يحاوطونه» من كل صوب، لا يكاد يرفع رأسه حتى يرى أن وقت الدوام انتهى وأمامه أكوام من الأوراق لم تنتهِ، ان تأخر فيها قد تتعطل مصالح الناس، يحاول من خلال وظيفته أن يسعى للناس في الخير ويسهل معاملاتهم حتى لو كان الموضوع يتعدى نطاق صلاحياته بالعمل، فغالباً لا يقصر بالتوصية ومتابعة أمورهم مع زملائه المسؤولين الذين تنتقل إليهم أمورهم، فتح الكثير من المنازل من خلال توظيف ابناء من يهرعون إليه عن طريق علاقاته مع كبار المسؤولين.
بعد أن يظل حتى المساء في مكتبه يتجه إلى منزله وهاتفه، لا يتوقف عن الرنين، تتذمر زوجته وعائلته من انشغاله الدائم مع الناس مختصرين الموقف بكلمة «الناس تدور مصالحها، اليوم كلاً يبيك لكن لما تطيح محد بيفيدك ترى!»، يعتقد وهو يسمعهم انهم يعانون من قصر نظر دنيوي، فلا يوجد عمل خير لا يفيد أو لا ترده الأيام لك أو يضيع عند الله! «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه».
يعتقد صديقه أنه ينصحه عندما يقول له «شلك بالشقى؟ شنو بتستفيد تاليتها محد بيقدرك!»، ابحث عن وظيفة تعمل بها قليلاً وتستلم منها راتباً جيداً وكان الله غفوراً رحيماً! فيرد عليه: الله سخر لي هذه الوظيفة من بين الملايين من عباده الذين حرمهم من هذه النعمة ورزقني الفطنة للخير الذي تحمله لاستلم منها راتبين، راتب دنيوي اقتات منه وتعيش عائلتي عليه حالياً وراتب سماوي آخر استلمه يوم الحساب دفعة كاملة!
قال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام «أحب الناس إلى الله انفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربه، أوتقضي عنه ديناً، أوتطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام»، وفي رواية أخرى «وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل».
كثيرون يمضون في أعمالهم حتى سن التقاعد، وهم يجهلون أن العمل الذي بيدهم من الممكن استغلاله بطريقة تجعلك تستلم من خلاله راتبين بدل راتب واحد! راتب يكون محفوظا لك في السماء ستحتاج لحسناته بالتأكيد يوم الحساب، خاصة في الوظائف الخدماتية او تلك التي لها احتكاك مباشر بالناس وتتعلق بقضاياهم ومصالحهم، السرور الذي تدخله على من معك بالعمل أو تفريج كرب من تعرفهم او الإحسان إلى زملائك أو المراجعين الذين يأتونك، كظمك الغيظ لمن يسيء لك، سعيك بكل قواك في حاجات الناس وأنت تدرك أنه مهما علا موقعك الوظيفي وكبر فأنت من تحتاج إليهم بالنهاية لا هم، تحتاج للخير الكبير المخفي في قضاء حوائجهم، وكما أنك تشعر بلذة الشعور وأنت تستلم راتبك الذي تعبت طيلة الشهر في العمل لاجله هناك شعور جميل آخر ستشعر بلذته وأنت تتذكر الرواتب الكثيرة من الحسنات التي تنتظرك في ميزان أعمالك، بعد أن تعبت طيلة حياتك في العمل لأجلها، وتستشعر توفيق الله لك في حياتك والبركة وحسن الخاتمة لاحقاً.
الله سبحانه جعل لأعمال الخير التي تقضى في الخفاء هبة لا يمنحها إلا لعباده الفطناء، ولمن يود أن يرزقهم أجر هذا السعي لذا ففعلاً أحب الناس إلى الله أنفعهم، وحين ننتبه لما ورد في الحديث «ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً»، بمعنى جعل مرتبة السعي مع الآخرين ومساعدتهم أعلى بكثير من مرتبة الاعتكاف في المساجد شهراً! فعبادة التعامل مع الاخرين وخدمتهم اصعب بكثير من تأدية عبادة وانت في عزلة واعتكاف.
ولذا نجد البعض فعلاً وصفهم كما جاء بالآية الكريمة «لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون»، يسخر الله للبعض المناصب المرموقة التي من خلالها بيدهم مصالح الناس ولكنهم يقومون بتعطيلها أو باستغلالها باستلام راتبين بدل راتب واحد ولكن ليس بطريقة الأخيار إنما بطريقة الأشرار المرتشين الذين يستغلون قضاء حاجات الناس بالرشاوى، لذا سوء خلقهم يفسد عملهم كما أشار الحديث «كما يفسد الخل العسل»، أو بتغليب مصالح جماعاتهم ومحسوبياتهم على حساب عباد الله، بل هناك منهم من يمارس الفساد من خلال سلطته وهو لا يدرك أن الله سلط عليه هذا الذنب لكونه محروماً من هذا الأجر وسيكون مفلساً بلا راتب من هذه الوظيفة التي ستعود عليه بالسيئات في النهاية، فالمال يأتي ويذهب ويبقى أثر العمل الصالح والنية الصادقة بأنك تعمل لأن العمل عبادة ولأنك ترى من خلال عملك نوافذ للخير.