لم تمضِ عدة أشهر على تسلم رودريغو دوتيرتي مقاليد الرئاسة في الفلبين حتى فاجأ العالم، وهو في بكين، بإعلانه «الانفصال» عن الولايات المتحدة الأمريكية، حليفة بلاده، منذ حوالي 120عاماً. وأمر الرئيس الفلبيني بوقف الدوريات العسكرية المشتركة في بحر الصين، ومغادرة القوات الأمريكية لبلاده.
وقال دوتيرتي، بعد اجتماعه برئيس الصين شي جينبينغ «أعلن انفصالي عن الولايات المتحدة». وسبق أن قال أمام حشد من مواطنيه يعملون في بكين: «لا تدخل أمريكياً بعد اليوم، لا تواجد أمريكياً بعد الآن.. لقد حان الوقت كي نقول وداعاً «باي باي» صديقي، إن وجودكم في بلادي كان لمصلحتكم». وفي الحال، حاول مسؤولون في مانيلا التخفيف من وطأة تصريحات دوتيرتي، حتى أنه هو نفسه استدرك قائلاً فيما بعد: «لن نقطع الحبل السري مع الدول التي نتحالف معها».
أسباب «الانفصال»
منذ أن تربع الرئيس الفلبيني الجديد، رودريغو دوتيرتي، على كرسي الرئاسة، قبل عدة أشهر، وهو يشن حملة لا هوادة فيها على المخدرات في بلاده، أدت إلى مقتل الآف المروجين والمتعاطين، بدون محاكمات، مما جلب له انتقادات من أمريكا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. فاشتاط دوتيرتي غضباً واعتبر ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية للفلبين. واغتنم قمة العشرين في الصين ليكيل الشتائم للرئيس الأمريكي باراك أوباما، والأمين العام للأمم المتحدة بأن كي مون.
وتصاعد الغضب الفلبيني إلى حد قيام دوتيرتي، وهو في بكين، بتفجير قنبلة «الانفصال» بوجه واشنطن، ليدلل على أن بوصلة مانيلا تتجه الآن نحو الصين. ورافق إعلان «الانفصال»، أو «فك الارتباط» كما وصفته صحيفة «التايمز» البريطانية، القول بأن «مانيلا ستحل خلافاتها مع بكين، حول بحر الصين، بالتفاوض، وأنها ستتوصل إلى حلول مع «الثوار» المسلمين والشيوعيين».
رد الفعل الأمريكي
يبدو أن إعلان الرئيس الفلبيني «الانفصال» كان بمثابة ضربة مباغتة لواشنطن، فجاء رد فعلها مرتبكاً ودون مستوى الحدث، الذي ربما يمثل فشلاً ذريعاً لسياستها الخارجية، في أواخر عهد الرئيس باراك أوباما. فوزارة الدفاع «البنتاغون» قالت إنها ستواصل التشاور مع الفلبين لتعديل المساعدات «العسكرية» بما يتناسب مع المقاربة التي تعتمدها السلطات في مانيلا أياً كانت». فهل ينفع تقديم الإغراءات والوعود الآن بعد إعلان «الانفصال» وفوات الأوان؟ فيما كشف وزير دفاع الفلبين أن حجم ما تقدمه واشنطن لبلاده يبلغ من 50 إلى 100 مليون دولار سنوياً، وهو ثمن بخس لشراء ود بلد كبير مثل الفلبين، تعداد سكانه مئة مليون نسمة، ومبلغ ربما لا يكفي لشراء طائرة حربية واحدة!
إذن، رد الفعل الأولي من الجانب الأمريكي يدل على عدم استيعاب تبعات هذا الحدث الخطير على مصالح واشنطن ونفوذها في جنوب شرق آسيا، وعلى موقفها على الساحة الدولية. ثم يدل على ضعف الأداء السياسي في التعامل مع تطورات كبيرة مفاجئة، تمس هيبتها كدولة أولى في عالم اليوم.
خلفية تاريخية
كثيرون لا يعرفون أن الاسم الأصلي لـ «مانيلا» عاصمة الفلبين هو «أمان الله» لأنها كانت بلداً إسلامياً، حيث وصلها الإسلام، بحلول القرن الخامس عشر، على يد التجار والدعاة من ماليزيا وإندونيسيا. ثم جاء إليها الإسبان، عام 1571، ونشروا الكاثوليكية، وبقوا فيها حوالي 330 عاماً، لحين اندلاع الحرب الأمريكية الإسبانية، فغادرها الإسبان وجاء الأمريكان. ثم أُعلن استقلال الفلبين في 12 يونيو 1898. وتأسست جمهورية الفلبين الأولى في العام التالي، 1899، لكن الولايات المتحدة لم تعترف بهذه الجمهورية فاندلعت الحرب الفلبينية الأمريكية، وانتهت بأن أصبحت أمريكا هي صاحبة السيطرة والسيادة. ولم تنل الفلبين استقلالها إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وظلت العلاقة بينهما كعلاقة السيد بالعبد.
الخلاصة
وهكذا ما أن تتخلص الفلبين من مستعمر حتى يأتيها مستعمر آخر. فلما تخلصت من إسبانيا جاءتها أمريكا. والآن تزامن إعلان «الانفصال» بتوجهها نحو الصين. الزاوية الأخرى، لهذا التطور المفاجىء، أن هذه هي المرة الثانية، خلال أشهر، التي تخسر فيها واشنطن حليفاً بحجم الفلبين. فقد أعلنت تركيا أنها ستتوجه نحو روسيا، تعبيراً عن غضبها على موقف واشنطن من الانقلاب العسكري الفاشل، واحتضانها فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بتدبير الانقلاب. وكان رد فعل أمريكا على تركيا بالاعتذار والتمسكن، تماماً كوعدها بزيادة المساعدات للفلبين.
يؤشر ازدياد الصفعات التي تتلقاها واشنطن، من هنا وهناك، على أن خللاً ما اعترى سياستها الخارجية، في السنوات الأخيرة، مما أربكها وأفقدها التوازن، كدولة عظمى. فلننتظر لنرى كيف تتصرف حيال «انفصال» الفلبين عنها.
* إعلامي أردني