ذكرنا في المقال السابق أن عملية تقنين الأحكام الفقهية في أبواب ونصوص قانونية من المسائل التي تلقى رفضاً عند البعض، الأمر الذي نجد معه من الضرورة أن نسلط الضوء على بعض الآراء المؤيدة لضرورة هذا العمل، ففي هذا السياق أكد عدد من الفقهاء جواز سن القوانين الإجرائية والاقتداء بها بما يحقق المصلحة وقد عبروا عن هذا النوع من القوانين الإجرائية بما يعرف لدى علماء أصول الفقه بـ «المصالح المرسلة»، أي المصلحة التي «لم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها»، من جانب آخر أكد بعض الفقهاء، كابن عقيل الحنبلي أنه «ليس شرطاً أن تكون القوانين الإجرائية قد ورد بها نص في المصادر الشرعية»، وقد رد ابن القيم على المعترضين بأنهم: «ضيعوا الحقوق وجرؤا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها»، «والكلام لشمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية»، وإن كانت الأدلة السابقة تدفع المتحمسين لهذا الباب من الولوج فيه إلا أننا لا ننكر وجود المحاذير التى يجب أن نشير اليها من باب الأمانة الفكرية والعلمية والعملية، «وهذا لا يعني التخلي عن الفكرة»، فمن العيوب الخطيرة للتقنين أنه يقيد القاضي برأي واحد معين – وهو الذي يختاره واضعو القانون – بينما الفقه الإسلامي ثري بالآراء والاجتهادات القيمة التى يأخذ بها لرجاحة دليلها ومناسبة أدلتها على المسألة المعروضة فالقانون يحد من سلطة القاضي التقديرية وإن كان لا يمنعها.
ومن سلبيات التقنين الواحد أن يحد من اجتهاد القاضي ويقلل من إثراء العملية البحثية التى تعد مصدراً ثرياً للعاملين فى هذا المجال، ومن العيوب التى لا تخفى على أهل القانون أن القاعدة القانونية قاعدة جامدة غير مرنة قاصرة فى تلبية احتياجات المجتمع المتغيرة لتسارع وتيرة الحياة والتقدم الحالي.
وبالرغم من وجاهة المخاوف والمحاذير السابقة إلا أن المبررات والمرجحات العملية لتقنين أحكام الوقف أقوى وأرجج منها مثلاً: إن من المصلحة العامة واستقرار المعاملات فى المجتمع التقيد والإلزام بالقانون خوفاً من الاضطراب والتفاوت فى الأحكام إذ إن ملكة البحث والاجتهاد تختلف من قاض إلى آخر.
ومنهم من يخشى عليه التأثر بالعواطف ولحن القول فيحكم بهذا الرأي مرة لشخص، ويحكم بغيره لشخص آخر، كما أن التقنين يعطي المتقاضين العلم بما يتجه إليه الحكم، سواء كان لهم أم عليهم.
القانون ليس مجرد تطبيق أجوف لنصوصه إنما يلزم المتقاضين والمحامين والقضاة بمذكرات علمية ناتجة عن بحث دقيق وتسبيب للأحكام على أسانيد ومصادر علمية وفقهية تجعل من الضرورة الرجوع إلى مصادر تلك القوانين، ولما كان القضاة فى وقتنا الحالي مقيدين بمذاهب بلدانهم فإنه لا حرج إن قُننت الأحكام الفقهية من أهل الخبرة والاختصاص في فقه الشريعة والإدارة والاقتصاد والقانون وغيرهم من الذين لهم قضايا متعلقة بالوقف.