بالأمس نشرت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية صورة لرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون وهو يتناول وجبة «السمك والبطاطا» الشهيرة في كورنوول حافي القدمين ويلبس ملابس رياضية بسيطة.
الغريب في الأمر تعاطي الإعلام العربي مع الصورة، حيث ضجت الصحف بأخبار معنية بها واصفة كاميرون بالبائس والحافي والجائع! وكأنها أخبار هدفها «التشفي» بأقوى رئيس وزراء شهدته بريطانيا بعد المرأة الحديدية مارجريت تاتشر.
أتطرق لهذا الموضوع بالذات فقط لأن حالة إعلامنا العربي أصبحت غريبة جداً، يفكر ويتصرف كما يفكر بعض البشر الذين يتعاملون مع الآخرين بحقد وغيرة، وحينما يتغير حالهم ينقلبون مهللين وراقصين.
بيد أننا للأسف لا نذهب وراء الخبر، ولا نتعب في البحث عن الخلفيات.
فمثلما نشرت «الديلي ميل» المعروفة بأخبارها المثيرة الصورة وتاركة العنان لأحد كتابها في تحليل الصورة وكيف أن ابتعاد كاميرون عن السياسة -بمحض إرادته- أوصله لوضع «يختلط» فيه مع عامة البشر، وكأن النزول للناس «عيب» وليست ميزة يتبعها القادة الأذكياء، وكاميرون أحدهم إذ التاريخ لا ينسى له بأنه أول رئيس وزراء يقرر خفض راتبه مبرراً ذلك برغبته أن يكون قريباً من البشر.
صحيفتا «الإندبندنت» و«الصن» البريطانيتان نشرتا نفس الصورة التي نشرتها «الديلي ميل»، لكن الخبر كان مختلفاً تماماً، إذ هو يتحدث عن قضاء ديفيد كاميرون إجازته الخامسة منذ تركه منصبه، وهو قضاها في كورنوول مع عائلته وعلى شاطئ البحر حيث أمضى خمسة أيام هناك، وبحسب تقارير الصحيفتين بأنه بدا مرتاحاً ومستمتعاً جداً!
تقرير «الديلي ميل» كتبه الكاتب توم أوتلي، وفيه استغرب أن يظهر كاميرون على هذا الشكل المتواضع، معتبراً أنه حتى الرؤساء الأمريكيون يحرصون على الظهور برونق المنصب حتى بعد مغادرتهم البيت الأبيض.
لست بريطانياً بل عربياً أعيش في بلد للأسف المظاهر تطغى فيه بشكل كبير، ويحرص عليها الكثيرون من مختلف طبقات المجتمع، لكنني أستغرب من استغراب الكاتب، إذ للأسف باتت حياة البشر الشخصية إن كانوا شخصيات عامة ذات يوم، باتت مادة إعلامية تتداول، ويزيد تداولها استغراب الناس، في حين أن البريطانيين أنفسهم يعرفون أن حياة «الكاجول» أي الحياة البسيطة كانت من سمات كاميرون الذي شوهد مرات يستقل القطار النفقي أو يتمشى في الشوارع.
عموماً، أدرك تماماً أن البعض قرأ الخبر ونظر للصورة وهو يرثي لحال كاميرون، والذي صوره الإعلام العربي بالأخص على أنه أصبح شخصاً فقيراً عادياً وبائساً!
بينما الحقيقة تقول العكس تماماً، فالرجل الذي غادر الحكومة بمحض إرادته احتراماً منه لقرار الناس حينما صوتوا لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، كونه كان معارضاً لهذا القرار، ومحذراً من تداعياته التي اتضحت مباشرة وبانت على الاقتصاد البريطاني، هذا الرجل سجل سابقة بتخليه عن منصب الرجل الأقوى في بريطانيا، وكان بإمكانه البقاء فيه، هذا الرجل الذي يتشمت فيه الناس اليوم، حاله أفضل من كثير من شامتيه.
كاميرون غادر منزل رئيس الوزراء في داوننج ستريت ليسكن في منزل قيمته 17 مليون جنيه إسترليني، وعائلته عريقة الأصل تمتلك منزلاً في نوتينغ قيمته 4 ملايين جنيه إسترليني، وهو مازال في منصب نائب عن منطقة ويتني، وينحدر من عائلة ثرية أساسها الملك الإنجليزي ويليام الرابع هو الجد الخامس لكاميرون، والأخير هو أول زعيم محافظ منذ الستينات يدرس في أحد أغلى المدارس الخاصة في بريطانيا وهي مدرسة «إيتون»، إضافة لكونه خريج جامعة «أوكسفورد» العريقة!
ليس هدفي هنا ديفيد كاميرون، بل هدفي دراسة حالة البشر وقراءة نفسياتهم من خلال تحليل سطور هذه الأخبار ومدى انتشارها.
الخلاصة بين يدك ستجعلك تدرك بأن غالبية البشر تستهويهم الشماتة بالآخرين بدل التعاطف، بل كثير من البشر يعيشون حياتهم وهم يراقبون حياة الآخرين، متناقلين أخبارهم، باحثين عن خصوصياتهم وناشرين لتصرفاتهم وزلاتهم وسيئاتهم، طامثين طبعاً لحسناتهم.
شخصية ديفيد كاميرون بالنسبة لي تمثل أحد القادة الأقوياء الذين جاؤوا ليخدموا مجتمعاتهم، وحينما وصلوا لمرحلة أدركوا فيها بأن دورهم انتهى وأن الأمور تسير بعكس ما يرون فيه صالح المجتمع «مثلما حصل في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي» اتخذ موقفاً تاريخياً يلزمه بمبادئه وأفكاره، وترك مكانه ليحمل المسؤولية الصعبة من يخلفه.
كاميرون تدين له بريطانيا بكثير من الأمور على رأسها تحسين الاقتصاد، وتعديل علاقاتها الخارجية مع كثير من الأقطاب، وفوق ذلك كله هو من أنقذ لندن مدينة الضباب من الإرهاب والفوضى والشغب في 2011، حينما طبق إجراءات أمنية صارمة، وتصدى لأبواق تدعي حقوق الإنسان، قائلاً بأنه حينما يأتي الأمر على استعادة الأمن القومي وحماية الشعب البريطاني فإنه لن يسمح لأصوات غير معنية ولا مسؤولة باسم حقوق الإنسان أن «تمنعني من حماية بلادي ومجتمعي».
لكن هذا حالنا للأسف، ولعبة الإعلام تؤثر كثيراً على الناس، قد تنورهم لكن في أغلب الأحيان تضللهم وتبحث عن الإثارة ليعيشوا عليها، بالتالي أصبحت إجازة ديفيد كاميرون على البحر وهو حافي القدمين وجالس بجانب أناس عاديين، أصبحت «حالة بؤس» و«نهاية مثيرة للشفقة» للرجل الذي كان يحرك بريطانيا بإصبعه.
كاميرون ارتاح من المسؤولية السياسية، متنعماً بحياته العائلية، لديه ملايينه وملايين عائلته، فكيف أنظر إليه بنظرة شفقة أو أشمت بحاله؟!