نتيجة للاعتبارات العملية وما كشفه التطبيق الواقعي لمبدأ عدم جواز الدفع بعدم التنفيذ من ظلم للمتعاقد مع الإدارة في بعض الحالات، فإن القضاء الإداري اتجه حديثاً نحو التخفيف من غلواء هذا المبدأ في بعض الحالات الصارخة التي استنبطت منها عدم إمكانية قيام المتعاقد بتنفيذ التزاماته في المواعيد المقررة لها دون قيام الإدارة بتنفيذ التزاماتها حياله.
ومرد ذلك مبادئ العدالة، وبشرط ألا يؤثر الدفع بعدم التنفيذ على حسن سير المرفق العام، حيث كفلت التوازن بين طرفي العقد من خلال إقرار حق المتعاقد مع جهة الإدارة في الامتناع عن تنفيذ التزاماته ما دامت هي لم تقم بذلك، حيث قضت المحكمة الإدارية العليا المصرية بأن مبدأ عدم جواز الدفع بعدم التنفيذ في نطاق العقود الإدارية لا يؤخذ على إطلاقه، إذ إن تقاعس الجهة الإدارية وإهمالها في تنفيذ التزام جوهري في العقد بعدم سداد مستحقات المتعاقد معها بدون مبرر، والتي بلغت مبلغاً كبيراً ومن شأن عدم صرفها أن يجعل المتعاقد في موقف يتعذر معه الاستمرار في التنفيذ، فإن توقفه عن التنفيذ واستكمال الأعمال إنما يرجع إلى خطأ جهة الإدارة وهو السبب الجوهري في توقف الأعمال وتأخرها ولا يصلح ذلك سبباً لسحب الأعمال من المقاول.
وذهبت ذات المحكمة إلى أنه لا يجوز نسبة الإخلال بالالتزام إلى المتعاقد مع الجهة الإدارية ما دامت هذه الجهة قد أخلت بالتزاماتها العقدية.
وفي ذات السياق، انتهت أيضاً ذات المحكمة إلى أن «توقف التمويل اللازم لإنجاز الأعمال يؤدي حتماً إلى تعثر المقاول وتوقف التنفيذ، وإذ تقاعست الإدارة وأهملت في تنفيذ التزام جوهري في العقد بعدم سداد مستحقات المقاول عما تم من أعمال بلغت مبلغاً كبيراً، فإن توقف المقاول عن التنفيذ واستكمال الأعمال إنما يرجع إلى خطأ جهة الإدارة بعدم صرف مستحقاته، فإن المقاول لا يكون قد أخطأ وإنما خطأ الإدارة هو السبب الجوهري في توقف الأعمال وتأخرها بالإضافة إلى تأخر تسليم الرسومات الهندسية التي لا يتم التنفيذ إلا بها ولا يصلح ذلك سبباً لسحب الأعمال من المقاول».
كما ذهبت محكمة القضاء الإداري المصرية -في ذات الشأن- إلى أن «عدم قيام جهة الإدارة بتنفيذ التزاماتها – ومنها المقابل النقدي كأهم حقوق المتعاقد معها باعتباره من ثوابت العقد، وذلك بما يجاوز الحد المعقول وبما يهدد التوازن المالي للعقد ويخل باقتصادياته بدعوى عدم كفاية الاعتمادات المالية، فإن هذا الامتناع يعد إخلالاً من جانبها بما التزمت به رضاءً، وهو ما أدى إلى توقف المتعاقد عن التنفيذ لمدة جاوزت أضعاف مضاعفة لمدة العقد، مما كان يتعين معه إعادة النظر في الأسعار المتعاقد عليها أصلاً وذلك على ضوء الأسعار السائدة عند استكمال التنفيذ وذلك حتى لا تجور المصلحة العامة على المصلحة الفردية على نحو يعوق المتعاقد معها على النهوض بتنفيذ التزاماته، ومن ثم فإن الخطأ العقدي للجهة الإدارية ينال من صحة ما اتخذته من إجراءات سحب العمل من الشركة المدعى عليها وتنفيذه على حسابها».
وقررت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصري جواز الخروج على مبدأ الدفع بعدم التنفيذ باتفاق الطرفين، خاصة إذا ما قدرا أن عدم تنفيذ الجهة الإدارية لالتزاماتها يعجز المتعاقد معها عن تنفيذ التزامه في الميعاد المحدد، فيحق للطرفين زيادة مدة التنفيذ بقدر ما تأخرت الجهة في تنفيذ التزامها بأداء مقابل الأعمال، وليس في هذا الاتفاق ما يخالف النظام العام، إذ إن قواعد العدالة ومقتضيات حسن النية التي تظلل العقود جميعاً تتأبى وتمسك الجهة الإدارية بعدم منح المتعاقد معها مهلة للتنفيذ إذ تراخت هي في أداء التزاماتها المقابل إذا ما قدرت -عند التعاقد- أن هذا التأخير من جانبها قد يعجزه عن أداء التزاماته في الموعد المحدد.
ومما تقدم، يتضح أنه يجوز الخروج على مبدأ عدم جواز الدفع بعدم التنفيذ، أي امتناع المتعاقد مع الإدارة عن تنفيذ العقد بحجة أنه ثمة إجراءات إدارية معينة أدت إلى إخلال جهة الإدارة بالتزاماتها تجاهه وذلك إذا أدى هذا الإخلال من جانب جهة الإدارة إلى عدم استطاعة المتعاقد معها الاستمرار في التنفيذ، كما لو توقفت عن سداد مستحقاته المالية دون سبب مبرر.
ولذلك؛ فإن القضاء الإداري -وبموجب الأحكام التي سبقت الإشارة إليها- تصدى لتعنت وتسلط جهة الإدارة تجاه المتعاقد معها -والتي كانت حينها تستظل بموجبها بمبدأ عدم جواز الدفع بعدم التنفيذ- فعدل من التطبيق الحرفي لهذا المبدأ وسمح للمتعاقد مع الإدارة أن يدفع بعدم التنفيذ، على النحو المشار إليه أعلاه، إذا كان إخلال جهة الإدارة قد وصل لدرجة لا يستطيع المتعاقد معها التغلب على ذلك الإخلال دون ضرر يصيبه، ومن ناحية أخرى أن يؤدي ذلك الإخلال إلى تعثره في تنفيذ التزامه التعاقدي من خلال عدم حصوله على مصدر التمويل اللازم لمواصلة تنفيذ العقد.