ثورات الشعوب تعبر عن ثلاث حقائق الأولى أنها تعبر عن الحس والطموحات والآمال الوطنية الشعب بمختلف فئاته وقواه السياسية وطبقاته. الثانية أنها تعبر عن الحس الوطني العام والمسيرة الوطنية للشعب المصري بغير تمييز والثالثة أنها تقدم رؤية للمستقبل وليس الماضي دون أن يعني ذلك تجاهل الماضي أو الانغماس فيه وإنما الاستفادة من عبره ودروسه لبناء المستقبل.
والثورة في المفهوم التقليدي عمل شعبي بعيداً عن القوة العسكرية ولكن من الناحية الواقعية فإن أي دارس لتاريخ الثورات يجد أن بينها وبين القوة العسكرية رباطاً وثيقاً فليست هناك حركة تغيير جذري بدون تغيير النظام القديم ولا يمكن تغيير أي نظام في المجتمع دون اللجوء للقوة العسكرية. ولكن هناك فارقاً جوهرياً بين الاستخدام المفرط للقوة لأهداف شخصية بحتة وبين تناغم وتفاعل القوة العسكرية مع المجتمع وطموحاته ومشاكله لأن القوة العسكرية في أي مجتمع هي من الشعب بمختلف قواه الفاعلة والمعبرة عن طموحاته وآماله.
ولهذا عندما قامت الثورة الروسية أو الثورة الصينية أو ثورة مصر 23 يوليو 1952 أو ثورة مصر 25 يناير 2011 لعبت القوة العسكرية دوراً مهماً في إطلاق المسيرة أو في حمايتها. بل إن النموذج التقليدي للثورات وهو الثورة الفرنسية استمرت عشر سنوات من عام -1789 إلى عام1799 في صراع دموي لولا أن نابليون بونابرت أنقذها بعد مذابح روبسبير والاتجاهات المتطرفة في تلك الثورة التي اتسمت بالعنف الشديد ونصبت المشانق للقيادات القديمة للوطن ولم تستقر الأوضاع في فرنسا إلا بعد حوالي مائة عام.
وعلينا أن نفكر بمنطق المستقبل وبمنطق قانون التغيير في الفكر والسياسة والعمل وليس مثل بعض علماء السياسة أو بعض السياسيين الذين تربوا في أحضان الفكر الغربي الذي يعيش تاريخه في تناقضات عجيبة لا يرى ما يفعله بالدول الأخرى من جرائم واحتلال واستعمار عبر القرون. كما إن بعض منظري سياساته وضعوا أفكاراً غير دقيقة علمياً وسار علي نهجها كثير من مثقفينا العرب معصوبي العيون مغلقي العقول. إن نجاح أية ثورة مرتبط بالاستعداد العسكري واستخدام القوة إذا لزم الأمر ولذلك قال القرآن الكريم «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» والغزوات الإسلامية من غزوة بدر حتى فتح مكة وما بعدها خير شاهد على ذلك.
ما أريد قوله إن ثورة يوليو 1952 جاءت كانقلاب عسكري تقليدي وأطلق عليها قادتها الحركة المباركة ثم تفاعل معها الشعب المصري والشعوب العربية بل وشعوب البلاد النامية لأنها عبرت عن أمالهم وطموحاتهم في الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية ومن هنا ازدادت شعبيتها بإعلان قانون محاربة الإقطاع والإصلاح الزراعي وقانون التمصير والتأميم للقطاعات الاقتصادية الكبري التي كان يسيطر عليها كبار الرأسماليين الأجانب وفي مقدمتها تأميم قناة السويس والقوانين الاشتراكية عام 1961 وأيضاً مساندتها لثورات الشعوب العربية وشعوب أفريقيا والدول النامية من أجل الاستقلال الوطني ومقاومة الاستعمار وبلورة نظريتها في بناء المستقبل على أساس المبادئ الستة للثورة ثم ميثاق العمل الوطني ثم بيان 30 مارس بعد الهزيمة لإصلاح عيوب الثورة في ممارستها للسلطة. رغم قيامها بالإنجازات المشهورة من خلال المشروعات الكبري مثل السد العالي وبناء صناعات حديثة مثل الحديد والصلب والألمنيوم ومجانية التعليم والصحة وغيرها. ولكن الثورة كغيرها واجهت تحديات الانفصال 1961 والتآمر ضدها والعدوان الثلاثي عام 1956 والهزيمة الكبري عام 1967 وأخذ جمال عبد الناصر بعد ذلك في تصحيح المسار ولكن لم يمهله القدر(يتبع)