منذ وقوع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا مساء الخامس عشر من يوليو 2016 آليت أن أكون في مؤخرة الكتاب تعقيباً وتحليلاً ريثما تنجلي الصورة وينقشع غبار نقع الخيل وتطاير النبال والسهام.
وما يلفت الانتباه حقاً هو الإجماع والتعاطف الذي حققه ذلك الرجل وخاصة عند الشعوب العالمية والعربية والإسلامية منها على وجه الخصوص وفي مقدمتها الشعب التركي الذي سطر أروع المواقف والذي أذهل باتحاده ووعيه الأعداء قبل الأصدقاء وحطم مخططاً رهيباً كاد أن يدخل تركيا والمنطقة في نفق طويل ضيق مظلم، فما خططت له الدول بجواسيسها ومخابراتها والذي قد استغرق الأيام الطوال وخصصت له الأموال الثقال، تلاشى وغدا سراباً خلال ساعات بعد أن عرقلته إرادة وتلاحم ذلك الشعب وتمسكه بتجربته الديمقراطية الصادقة والتي نقلته خلال عقد من الزمان إلى مصافي الدول الاقتصادية .
(( وتذكرنا هذه الواقعة والملحمة والتي سيذكرها التاريخ والأجيال المتعاقبة بوقفة شعب البحرين الحر الكريم العفوية في ال 21 من فبراير 2011 (وقفة الفاتح المباركة) والتفافهم حول قيادة الملك (حمد بن عيسى آل خليفة) رعاه الله وتوجههم رجالاً وركباناً حتى غصت بهم شوارع وأزقة البحرين مما أبطل من فوره خداع وزيغ الانقلابيين فانقلبوا بعدها صاغرين)) .
وكان لتوجه حزب العدالة والتنمية والخط الذي سلكه أردوغان في إدارة الأمور السياسية المعقدة والمتشابكة في تركيا والذي على ضوئه ونتائجه تشكلت المواقف الرسمية وخاصة من بعض الدول العربية و الاقليمية والعالمية والذي أصبح شخصه ونهجه وسلوكه لغزاً محيراً للحكومات والقيادات ممن يتابع المسيرة الأردوغانية فتزيلت وافترقت عن شعوبها والتي تعاطف جلها مع الشعب والقيادة التركية على النقيض من الحكومات، فمنهم من يعتبر أردوغان خطاً من خطوط الإخوان ففرح المناهض لذلك الخط وعبر عن فرحه وربما أعد بيان التهنئة لقادة الانقلاب التركي فتعجل الأمر وخاب فأله.
ومنهم من يعتبره من سلالة وبقايا العثمانيين وهو عنصري حد النخاع و يحن لإرثه وقد اتخذ من الدين غطاء لدغدغة مشاعر الأتراك وكسب تأييد المسلمين ممن يحنون إلى أيام الخلافة العثمانية فهو متردد بين التأييد أو الإدانة.
وآخرون يعتبرونه علمانياً متطرفاً متخفياً ومتناغماً مع الكيان الصهيوني والغرب وهو طالب للسلطة أكثر منه سعياً للوطنية والديمقراطية وهو مستعد أن يضحي بأقرب المقربين له من المؤيدين والمعارضين من عسكر ومدنيين لينفرد كدكتاتور وزعيم أوحد في السلطة واستبق الأحداث فتقارب مسرعاً مع الكيان الصهيوني واعتذر لبوتين لقطع الطريق على المناوئين لحكمه والمتربصين !! .
أما الأشد عداء وبغضاً لأردوغان وللشعب التركي فقد أبدوا فرحهم مع أول تحليق لطائرة الانقلابيين فوق سماء إسطنبول ولم يتضح بعد مصير ومكان تواجد أردوغان!! وفضحوا أنفسهم وكشفوا كالعنزعن عورتهم فليس حال شعوبهم بأفضل من الشعب التركي استقراراً ورخاءً وأمناً وحريةً.
فهم ملالي قم والمعممون وسياسيي الولي الفقيه وأذنابهم من حكام العراق وسوريا وحوثيي اليمن وجمع من الحمقى السياسيين لأن انفتاح أردوغان ومرونته كانت تمثل بالنسبة لهم حجر العثرة لكثير من مشاريعهم التوسعية الشريرة في المنطقة ومصالحهم الضيقة وقد أزعجهم كثيراً التقارب التركي السعودي واعتبروه حلفاً قد تشكل ليهدم بناءا يكاد ان يكتمل وقد اعد مخططه ويرعاه بالخفاء حليفهم الأمريكي .
أما الموقف الغربي والأمريكي منه على وجه الخصوص فما زال غامضاً يشوبه الريبة والشكوك خصوصاً أن أصابع الاتهام التركية تتجه صوب البيت الأبيض وبالرغم من الاتصالات المتكررة مع القادة الأتراك والتصريحات المنمقة الدبلوماسية الناعمة بدعم الديمقراطية التركية إلا أنه يبدو وكأنه تملق واستباق محموم لاحتواء الأزمة قبل انفجارها.
فإن تخطت اليوم تركيا وباعجوبة الخطة ( أ ) المرسومة لها فالعدو بالتأكيد ليس سهلا ولن يستسلم بسهولة وقد اعد لها الخطة (ب) وقد ادرك ذلك اردوغان وحزبه لكنه في الوقت الضائع وما التحرك المفاجئ الذي قرره في الاعتذار من بوتين والتطبيع مع الكيان الصهيوني ما هي إلا خطوات استباقية لتحييد دولتين لهما بالغ الأثر في الملف التركي ففهما أردوغان لكنه يبدو أنها وقعت منه في الوقت الضائع .ولتركيا كل الحق في اتخاذ ما تراه مناسباً للمحافظة على أمن البلاد والعباد
لكن على تركيا اليوم بعد أن سلطت الاضواء العالمية صوبها ضبط النفس وعدم ترك أي ثغرة ينفذ منها دعاة حقوق الإنسان والخشية من القادم أن يتم استغلال الاعتقالات والمحاكمات والاجتثاث والتنكيل لتسخر لاحقاً ولتكون ورقة ضغط جديدة ستستغلها بعض الهيئات والمنظمات الدولية في غزل ونسج حبل متين يتلف حول عنق أردوغان .
إن الجهات التي تخطط لمصير المنطقة قد حسمت أمرها بإدخال تركيا في الفوضى الخلاقة وقد أعدت الخطط تلوى الأخرى, وأن القناص قد وضع أردوغان وحزبه في التصالب وسبابته مشدودة على الزناد وينتظر الإشارة ليسدد الرمية لينتقل الصراع بعدها إلى طور مغاير ليلهب المنطقة في مشهد هو أعنف وشد رعباً من كل أشكال العنف والإرهاب الذي مضى والذي سيكون إرهاب القاعدة وداعش معهما أقزاماً أو لعب أطفال..
مما يستوجب مع هذا الوضع المتوتر الخطير أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر سواء في الداخل التركي بل حتى دول المنطقة فالشرر سريع الانتقال والخلايا النائمة قد فتحت أحداقها عليه يجب وضع كل الاختلافات والخلافات الحزبية والمصالح الذاتية جانباً والتعويل على الشعوب فقد ثبت بالتجربة أن الشعوب لا تقهرأبداً. إضافة إلى الواجب الشرعي والأخلاقي بالوقوف مع الشعب التركي والشرعية صفاً واحداً وعدم تركهم لوحدهم ليقودوا صراعاً عالمياً تنوء تركيا لوحدها بصده وحمله خصوصاً إذا علمنا أن المستهدف ليس تركيا فحسب بل الشرق الأوسط برمته فإن فشل الأعداء بحرق تركيا اليوم بفضل الله ثم بوعي الشعب وحنكة أردوغان وحزبه وحتى تعاطف معارضيه معه فقطعوا على الاعداء الطريق فثقوا سادتي انهم سينقلوا قريبا ساحة اللعب والصراع وفتح اللهب الى دول عربية وخليجية مما يستوجب مغادرة دور المتفرج السمج الذي هو أقرب إلى دورالانتحار السياسي والذي تعاطت معه وجربته أغلب الدول العربية مع الملف العراقي والسوري واليمني حتى تعاظم وتجذر وكان من نتائجه ضياع سوريا وتمزيق شعبها وخلخلة اليمن والذهاب بشرعيتها و ابتلاع العراق كاملاً من قبل إيران ومن الاستحالة اليوم إخراجه من بين فكيها ومخالبها..
فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ..
والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.