«كسب» الرأي العام والحصول على ما يترتب على ذلك من امتيازات توظف في القادم من السنين لعبة سياسية تعمد إليها مختلف الأحزاب في جميع الدول في المسار المعقد نحو الوصول إلى مقاليد السلطة وهو مسار قد لا يكون خاليا من بعض الخروقات.
أبرز هذه الخروقات تكمن في الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام في التأثير على العملية الانتخابية لتحويل عملية «كسب» الرأي العام إلى عملية «تصنيع» له.
فالإعلام بما يمتلكه من قدرات قادر على تسويق أحزاب وسياسات وتجميل قيادات لمساعدتها على تحقيق أهدافها خاصة بعد أن تحول إلى علم واسع يمتلك أذرع عديدة شديدة التأثير على الرأي العام وأصبح مؤسسة تدار من قبل خبراء متخصصين في التعامل مع الجمهور عبر سبر أغوار سلوكياته وطموحاته وبالتالي رسم استراتيجيات الحوار معه لتصنيع مزاجه.
في هذا السياق تربكنا بعض وسائل الإعلام في أحيان كثيرة في صحافتها أو في نشراتها الإخبارية أو في الندوات التي تقدمها حين تضفي ألقابا كبيرة الدلالة مثل «الاستراتيجي» أو «المفكر» على بعض من يظهر فيها مستضافاً للإدلاء بوجهة نظر أو للمشاركة في ندوة حوار حول قضايا ذات طابع سياسي تحظى باهتمام الرأي العام..
وقد يرد في أحيان قليلة اسم البعض مسبوقاً بلقب نادر الاستخدام «العلامة»!. والحقيقة أن هذه الألقاب الفخمة تسبب بعض الالتباس في فهم مغزى هذه الممارسة الفوقية المراد تسليطها على المتلقي من خلال استخدامها مع أننا قد لا نسمع من هؤلاء آراء وتحليلات وتنبؤات تختلف كثيراً عما نسمعه من آخرين لا يحملون هذه الألقاب.
في هذا السياق لنا أن نتساءل: هل تقديم هؤلاء بهذه الطريقة يخضع لمعايير موضوعية تتفق مع الخبرات التي اكتسبوها أو القدرات التي يتصفون بها؟، أم بدافع التشويق الإعلامي الذي لا يستبعد توظيف أدوات غير موضوعية من ضمنها المبالغة في الإطراء؟، أم لغرض تسويق موقف سياسي يراد له أن يأتي على لسان «استراتيجي» أو «مفكر» ليحدث تأثيراً لدى المتلقي يفوق ما يحدثه حين يأتي على لسان غير هؤلاء؟، أم أنها لا تتعدى أن تكون فوضى إعلامية تعبر عن القصور والقدرات المحدودة لدى هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك؟. حين يرد ذكر «المفكر» يتجه الذهن لا إرادياً نحو النصب الشهير للنحات الفرنسي أوغوست رودان في القرن التاسع عشر الذي استلهم فكرته من تأملاته العميقة لما ورد في الجزء المتعلق بالجحيم في الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي في القرن الرابع عشر. النصب مصنوع من البرونز وهو يمثل إنساناً يجلس على صخرة ويسند رأساً متعبة إلى كفه الأيمن في وضع تأملي عميق مع ذات تتصارع في دخائلها أفكار عميقة لا تتعلق بشخصه قدر ما تتعلق بهموم البشرية، النصب غالباً ما يرمز للفلسفة.
وحين يرد ذكر «الاستراتيجي» يتبادر للذهن أسماء لعبت أدواراً هامة على المسرح العالمي منهم راسمو سياسات كبار أمثال كيسنجر أو بريجنسكي أو قادة عسكريون وضعوا خطط معارك كبرى غيرت مصائر الحروب أمثال المارشال الألماني رومل أو المارشال الإنجليزي مونتغومري. أما حين يرد ذكر «العلامة» فأجد نفسي محرجاً أقر بعجزي عن الإشارة إلى من يمتلك في هذا العصر ما كان الشيخ الرئيس ابن سينا يمتلكه في عصره من خصائص الموسوعية في المعرفة والسداد في الرأي.
والحقيقة أننا اعتدنا ومنذ زمن طويل على تداول ألقاب كبيرة مثل «عميد» الأدب العربي أو «أمير» الشعراء أو «كوكب» الشرق أو «موسيقار» الأجيال أو غير ذلك من ألقاب ألصقت ببعض المرموقين في عوالم الآداب والفنون في العالم العربي دون أن نتساءل عن المعايير التي اعتمدت في منح تلك الألقاب ولا عن هوية وأهلية الجهات التي منحتها.
لا نشير لهذه الألقاب للتقليل من أهمية الدور الفكري التنويري الذي لعبه الدكتور طه حسين ولا المساس بالمكانة الشعرية الرفيعة لأحمد شوقي ولا التعرض لما كان لأم كلثوم وعبدالوهاب على مدى عدة عقود من السنين من دور رائد في إسعاد الناس بمفاتن مجال الغناء والموسيقى. ولكننا لم نعد في الماضي فنحن في زمن مختلف لم تعد فيه الألقاب تطلق جزافاً بل أصبحت تخضع لمعايير دقيقة وذلك لأن حملتها يلعبون أدواراً هامة في الحياة الفكرية والسياسية في مجتمعاتهم ولهم تأثير خطير على مساراتها. كما أصبح الإعلام أكثر وعياً ويقظة ليس في رصد الأحداث وإخضاعها لآليات عرضه فحسب بل في مواجهة نفسه، فحين تزل يسراه سرعان ما تفضحها يمناه.
تمنح الألقاب عادة من قبل جهات متخصصة معروفة برصانتها وحرفيتها وموضوعيتها، فمؤسسات التعليم العالي الأكاديمية تمنح شهادات التخصص في مختلف فروع العلوم والآداب والفنون ليصبح لقب حامليها «مهندس» أو «طبيب» أو «مدرس» أو «صحفي» أو غير ذلك ولكنها لا تمنح لقب «عالم» أو «أديب» أو «خبير».
أما مراكز البحث والتطوير أو المراكز المتخصصة بالدراسات المستقبلية فهي تمنح المنتسبين لها لقب «باحث» أو لقب «مستشار» إلا أنها لا تمنح لقب «مفكر» أو «استراتيجي» أو «علامة»، فهل من مهام الإعلام وشخوصه منح هذه الألقاب الكبيرة؟.
عن البيان الإماراتية