أصبح خروج بريطانيا العظمى من ربقة الاتحاد الأوروبي حقيقة بعدما كان أكبر واقع يشهده العالم على قوة هذا الاتحاد، ولأن الحضارات والدول تشيخ وتهرم كما يشيخ ويهرم الإنسان، كان لا بد لأنجم الاتحادات الدولية أن تأفل حين يأتي أوانها، فالسنن الكونية والحياتية تقول لنا بأن لا شيء يبقى على ما هو عليه من القوة ولا على ما هو عليه من الضعف، فمسيرة الحضارات الكبرى تبدأ وتسير بكل ثبات وحيوية حتى تصل إلى قمة الهرم، ثم تلبث في التدحرج نحو القاع، وهذا فيما يبدو هو الحاصل اليوم لبريطانيا.
في تحليل أصاب كبد الحقيقة حول مسألة خروج بريطانيا المدوي من الاتحاد الأوروبي، علق المحلل السياسي في قناة الـ BBC «كرس موريس» على هذا الموضوع قائلاً «الشعور بالصدمة يكاد يكون ملموساً. فالزعماء الأوروبيون يحاولون جاهدين التأقلم مع نكسة كبيرة أصابت أولئك الذين يؤمنون بفكرة الوحدة الأوروبية. فالاتحاد الأوروبي لن يعود كما كان بدون المملكة المتحدة. ومن الواضح أيضاً أن الزعماء الأوروبيين يريدون أن يتم الانتهاء من مفاوضات الانفصال السياسي والاقتصادي بسرعة ودون إبطاء. وهذا يعني أنهم يريدون من المملكة المتحدة أن تفعل المادة 50 من اتفاق لشبونة - وهي الآلية التي تتحكم بمفاوضات الانفصال - في زمن قد لا يتعدى الأسبوع المقبل، وليس الانتظار حتى تولي رئيس جديد للحكومة في أكتوبر المقبل. بعبارة أخرى، بدأت التوترات في الظهور إلى السطح من الآن. وعلى الرغم من أن كل الأطراف تركز على ضرورة التعاون، لا توجد أي رغبة في الكثير من العواصم الأوروبية للتساهل مع المملكة المتحدة في هذه الظروف. لقد قلب النظام السياسي الأوروبي رأساً على عقب، في تطور ستكون له عواقب على المدى البعيد لا يستطيع أحد توقع مداها بأي دقة».
لقد شبعت الدول الرأسمالية العظمى بما فيه الكفاية، حتى كانت التخمة والجشع والاستئثار بثروات العالم هي العناوين اللافتة للبريطانيين منذ أن استخدموا الهنود كسخرة لبناء أمجادهم ومدنهم الحصينة في لندن وانتهاء بتمددهم من الداخل الأوروبي حتى نهاية العالم في جزر بعيدة كنيوزلندا، لكن ما لم تك تعلمه بريطانيا أو ما لم تود أن تعرفه اليوم، هو أن لكل حضارة عظمى نهايات وهاوية، فالشعب البريطاني والشعوب المنضوية تحت تاجه قررت مصيرها بنفسها حين عرفت أن وقت الأنانية قد ولى دون رجعة فقررت الانفصال، وعلى الرغم من الاحتمالات المفتوحة للانهيارات الاقتصادية المتوقعة بسبب الانسحاب الختامي للبريطانيين من الاتحاد الأوروبي إلا أن قيمة «الإنسان» الحقيقية تتلخص في أن يفتش الإنسان نفسه عن حريته بعيداً عن كل ألوان الجشع والعبودية والهيمنة، ولربما تكون الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت المدوية داخل القارة العجوز ضد أقدم أنواع الاستعمار الحديث أنانية وصلافة.