من واقع قراءاتي في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي والتي عرضت لبعضها في كتابي الصادر عام 2007 من المكتبة اللبنانية المصرية بالقاهرة بعنوان «الإسلام والمسلمون في القرن الحادي والعشرين: التحديات والاستجابات»، خلصت لبعض النتائج الفكرية ذات الصلة الوثيقة بموقف النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وفي مقدمة تلك المبادئ حب الوطن والولاء له والدفاع عنه. وهذا المبدأ له ثلاثة أبعاد، البعد الإنساني والبعد الديني والبعد السياسي. فالبعد الإنساني يرتبط بالحب الغريزي للإنسان لمسقط رأسه. أما البعد الديني فهو يرتبط بنصوص قرآنية تؤيد البعد الإنساني وتعززه. أما البعد السياسي فهو ينبع من صحيفة المدينة التي هي عقد سياسي وطني أعلنه النبي محمد بعد هجرته للمدينة المنورة «يثرب» قادماً من مكة.
بالنسبة للبعد الديني فإنه ينبع من القرآن الكريم في سورة البلد وقسمه بها وأهمية صلتها بمولد الرسول علي الصلاة والسلام حيث قال جل شأنه «لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد»، هذا القسم يظهر أهمية مكة، ولكنه من ناحية أخرى يشير إلى حرمة الوطن بالنسبة لكل من يولد على أرضه، وهي حرمة مطلقة لا تدانيها أية حرمة بما في ذلك الانتماء إلى عقيدة أو إلى حزب أو طائفة وما شابه ذلك. ومن ثم تقتضي الشريعة احترام الوطن وحبه والذود عن حياضه، ومبدأ الوطنية والإيمان بالوطن وحبه يقتضي بذل الغالي والنفيس من أجله. وليس الدفاع عن طائفة أو شخص ينتمي لدولة أجنبية. ولهذا لم يحارب الرسول كفار مكة إلا دفاعاً عن نفسه وعرضه وصحابته، وجاء فتح مكة استعادة لحقوق المسلمين العرب الذين طردوا من وطنهم. والرسول عند الهجرة نظر لمكة قائلاً «والله إنك لأحب بلاده الله لله وأحب بلاد الله لي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت»، وكثيرة هي آيات القرآن الكريم التي تحض على حب الوطن والدفاع عنه. وفلسفة قتل المرتد ليس لأنه غير دينه وإنما لأنه خان وطنه.
وقد أفاض بعض الشعراء في حق الوطن على المواطنين ونموذج ذلك قول أحمد شوقي:
وطني إن شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وينسب إليه أيضاً:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
أهلي وإن ضنوا عليّ كرام
والإمام محمد مهدي شمس الدين رحمه الله كتب كثيراً عن مسألة حب الوطن والولاء له خاصة في كتابه «التجديد في الإسلام». للأسف بعض العلماء والناشطين السياسيين المسلمين ينسون هذه الأمور ويفتون بعكسها، ومن ذلك «الإخوان المسلمون» عندما صرح مرشدهم بأنه «ليس لديه مانع أن يتولى شخص ماليزي حكم مصر من أن يتولاها قبطي مصري»، وهذا قمة الفهم الخاطئ للمبادئ الإسلامية ولحب الوطن. ويتناقض مع صحيفة «المدينة» التي سوت بين جميع سكان المدينة من المسلمين واليهود والمشركين وغيرهم، وبأنهم يشكلون مع المسلمين أمة للدفاع عن المدينة، وأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ولقد أثبت أقباط مصر أنهم أكثر ولاء للوطن ووطنية وحباً لمصر من كثير ممن يسمون قيادات إسلامية، فقد قال البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، عندما دمر بعض المتطرفين بعض الكنائس «لو دمرت جميع الكنائس في مصر لا يهم ولا يصاب مصري واحد بأذى». فالكنائس يمكن إعادة بناؤها أما المصري فالإنسان هو بنيان الله ملعون من هدمه. وكما جاء في القرآن الكريم، من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. هذا هو حب الوطن وحب الإنسان بغض النظر عن دينه أو عقيدته أو طائفته. ولقد خذل الأقباط المصريون خطط السياسة الأمريكية بإثارة الفتنة الطائفية فيها كما يحدث في بلاد أخرى وهذا هو الحب الحقيقي للوطن والولاء الحقيقي له.
ولقد تسبب المفكر الباكستاني الهندي أبو الأعلى المودودي وإلى حد ما الشاعر الباكستاني محمد إقبال في الخلط بين مفهوم الأمة ومفهوم الوطن. وربما مرجع ذلك عدم اتقانهما للغة العربية فكلمة أمة في القرآن الكريم لها أكثر من معنى مثل: إنسان واحد ذو مكانة وعلم، ولهذا قال القرآن الكريم «إن إبراهيم كان أمة». أو مجموعة ناس حتى ولو بلا عقيدة دينية كما في قصة سيدنا موسى عليه السلام في مدين حيث وجد على البئر أمة من الناس أي مجموعة من الناس.
وترديد الأقوال التي تبث الفرقة تدخل في باب الخيانة للوطن وينطبق عليها حد الردة وحد الحرابة، وهذا ما فعله الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال المرتدين. أما المواطنون المخلصون للوطن بغض النظر عن دينهم فلهم كامل الحقوق مثل المسلمين تماماً وصحيفة المدينة المشهورة تؤكد ذلك.
* باحث في الفكر السياسي الإسلامي