من أهمِّ وأغرب التقارير المتلفزة التي شاهدتها في حياتي، هو التقرير الخاص الذي يتحدث عن واقع التعليم في فنلندا. يؤكد التقرير أن مستوى التعليم في هذه الدولة الأوروبية ولسنوات ليست ببعيدة يقبع في القاع مقارنة ببقية دول العالم، أمَّا اليوم فإن التعليم في فنلندا يحتل المرتبة الأولى عالمياً وطلاب مدارسها يحتلون المرتبة الأولى كذلك من حيث مستوى التعليم ومخرجاته وقوة شخصية الطالب.
يسرد التقرير وعلى لسان وزيرة التعليم في فنلندا مجموعة من العوامل التي أدت إلى تطور حركة التعليم هناك، لعل من أهمها هو عدم وجود واجبات منزلية على الإطلاق، واعتبرت الوزيرة أن مسألة إرهاق الطلبة بالواجبات المنزلية تعتبر من المسائل التي عفا عليها الدهر. فالطلبة في فنلندا يلعبون ويمارسون حياتهم الطبيعية داخل أسوار المدرسة، ويقضي طلبة الابتدائي نحو 3 إلى 4 ساعات يومياً - مشمولة بأوقات الاستراحة - أي بما يعادل 20 ساعة في الأسبوع، ويعتبر اليوم الدراسي في فنلندا هو أقصر يوم دراسي في العالم، كما أن عامهم الدراسي هو الأقصر كذلك. يؤكد الفنلنديون أن التعليم في بلدهم أرقى بمراحل من التعليم داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة يقوم تعليمها على مقاييس وأدوات تجارية، أمَّا في فنلندا فإن التعليم يقوم على اعتبار أن الإنسان هو محور العملية التعليمية برمتها. في فنلندا يمارس الطلبة حياتهم بشكل طبيعي داخل المدرسة ويتواصلون مع أصدقائهم اجتماعياً، وهم حسب وزيرة التربية هناك فإن «الأطفال يكبرون أمام أعيننا كبشر» وليسوا كآلات أو أجهزة خرساء. فمحور التعليم هو «الطالب الإنسان» وليس أي شيء آخر.
هذه التجارب الناجحة والرائدة في مختبرات التعليم المتقدم والمحترم هي التي يجب على الدول العربية استنساخها والاستفادة منها بشكل كامل، دون الحاجة إلى زيادة ساعات «التمدرس»، وسجن الطلبة خلف قضبان مدارس تعمل بنظام الواجبات المدرسية المكثفة والاختبارات والامتحانات المرهقة التي لا تنفعهم في المستقبل، بل تنفرهم من التعليم بشكل خطير.
لقد تحرر التعليم في فنلندا من قيود الحقيبة المدرسية التي تقصم ظهر الأطفال، واليوم يعتبر الفنلنديون هذه الظاهرة من الظواهر التعليمية المتخلفة جداً، فتعليمهم يقوم على محاكاة الواقع أكثر من الاتكاء على مجموعة من الكتب التي يصل وزنها إلى نحو 20 كيلوجراماً للطالب الواحد. التعليم هناك لا يعتمد على وزن الحقيبة المدرسية، وإنما يعتمد بشكل أساس على احترام الطالب وإبقائه في المدرسة أقل قدر من الساعات الممكنة، دون الحاجة لأن تقاس جودة التعليم عندهم بوزن الكتب الورقية والساعات المطولة.
أوقات أقل ولعب أكثر يساوي أفضل تعليم على وجه الأرض، فهل لنا في البحرين وسائر الدول العربية أن نستفيد من هذه التجربة الرائدة في هذا المجال؟ أم إننا سنظل نستورد خبراء تجاريون كل همهم جني رواتب تفوق ميزانية الدولة، إضافة إلى أنهم يسرقون أعمار أطفالنا دون جدوى، وفي المحصلة نجد أنفسنا خارج نطاق الدول المتقدمة في سلم الترتيب من حيث نوعية التعليم وجودته، بعيداً - طبعاً - عن شهادات حصلنا عليها لتشهد لنا زوراً أن التعليم لدينا يضاهي أكثر دول العالم تقدماً في مجال التعليم؟ أخيراً، هل سنستفيد من التجارب العميقة والعملاقة لفنلندا؟ أم سنظل نصدق أكاذيب من ضللونا فقالوا إن التعليم عندكم أفضل من التعليم في أوروبا؟