حلت قبل أيام ذكرى مرور مائة عام على توقيع معاهدة الاستعمار السري «سايكس بيكو»، ففي 16 مايو 1916، تم التوقيع على المعاهدة بين بريطانيا وفرنسا، ووضعت حدوداً لا تزال قائمة. ومن أبرز المساوئ التي أفرزتـها الاتفــاقيــــة «وعـد بلفـور» – وعـد من لا يملك لمن لا يستحق – الذي تعهدت فيه بريطانيا بكيان قومي، وسمح بإنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وكانت تلك هي البذرة الشريرة التي نبتـــت خراباً في منطقتنـــا العربية حتى الآن!
وقد بدأت قصة «سايكس بيكو» نهاية عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، حينما بحثت فرنسا وبريطانيا تقاسم احتلال المناطق العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية التي كانت على وشك الانهيار. وكانت القوتان الاستعماريتان الكبيرتان حاضرتين في المنطقة، واختارت الدولتان دبلوماسيين يتمتعان بدهاء كبير لإقرار تلك الاتفاقية في سرية تامة، هما البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرنسوا جورج بيكو، لإجراء مفاوضات حول ترتيبات سرية تحمل اسميهما. وكشفت المعاهدة من قبل حكومة الثورة الروسية في عام 1917، ورأى فيها العرب خدعة استعمارية كان «بيضة القبان» فيها ضابط الاستخبارات البريطاني توماس إدوارد لورنس المعروف باسم «لورنس العرب»، الذي كان مكلفاً بتأجيج الثورة العربية ضد العثمانيين، والتي بدأت في يونيو 1916، من خلال تواجده في المنطقة قبل 5 سنوات، في عام 1911، حيث تم زرعه على أساس أنه عضو في بعثة تنقيب بسوريا، ثم ما لبث أن أتقن اللغة العربية، واخترق صفوف العرب وبدأ تدريجياً في إشعال فتيل الثورة على العثمانيين.
وبعد مرور قرن من رسم حدود الشرق الأوسط في الاتفاقية والتي اقتسمت بريطانيا وفرنسا بمقتضاها السيطرة عليه، بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، يسيطر العنف الدموي الطائفي على تلك الحدود، وتجد إسرائيل في تلك الفوضى الدموية فرصة كبيرة لها، حيث تسعى لزيادة نفوذها، بمساعدة أمريكا وروسيا، متمثلتين في وزيري خارجيتهما جون كيري وسيرغي لافروف، بينما يرزح الفلسطينيون تحت الاحتلال، فهم الخاسر الأكبر من تلك الاتفاقية، في وقت يلعن فيه العرب والأتراك المعاهدة المشؤومة كل صباح ومساء، ولا يتردد الأكراد في التعبير عن رغبتهم في إقامة دولة مستقلة!
وربما هذا ما يفسر تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي شدد فيها على «ضرورة حصول إسرائيل على اعتراف دولي بأحقيتها بهضبة الجولان» المحتلة منذ حرب يونيو 1967، تحت ذريعة أن دمشق ربما لم تعد قادرة على الاحتفاظ بما يكفي من السلطة المركزية اللازمة للتفاوض لاستعادة الهضبة الإستراتيجية.
وقد جسدت تصريحات العضو القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي حزن ملايين الفلسطينيين إزاء الغدر والخيانة التي تعرضوا لها من تلك الاتفاقية الاستعمارية. وفي إشارة إلى الجولان المحتلة، قالت إن «إسرائيل تستغل الوضع من أجل محاولة التركيز لجعل احتلالها غير الشرعي للأرض العربية بما فيها الضفة الغربية دائما». ويؤمن العرب بأن تلك الاتفاقية كانت السبب في تقسيم الأمة وعملت على التهيئة لاحتضان الكيان الصهيوني ولتمرير مشروع الاحتلال ولإبقاء العرب في حالة ضعف، ولذلك هناك قناعة لدى الكثيرين في العالم العربي من أن «كل نزاع في المنطقة تم التخطيط له قبل قرن»، وربما يتفقون في هذا الطرح مع اعتقاد غالبية الأتراك الذين يشعرون بالضغينة لـ «سايكس بيكو»، ويتجسد ذلك في تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الذي لا يترك فرصة إلا ويحذر فيها من «اللورنسات الجدد الساعين إلى زعزعة استقرار المنطقة»، في إشارة إلى «لورنس العرب». والملاحظ أن أكثر الدول التي يتضح فيها تبعات «سايكس بيكو»، هما سوريا والعراق، فهما الدولتان اللتان شهدتا تخطيطاً لحدودهما من خلال المعاهدة، واليوم تشهدان مكاسب لتنظيم الدولة «داعش»، إضافة إلى الاقتتال الطائفي الذي يدور بين السنة والشيعة في تلك الدولتين، ما يزيد الغموض حول مصيريهما. وفي يونيو 2014، أعلن مسلحو «داعش» الذين نشروا فيديو لإزالة السواتر في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، نيتهم محو جميع حدود المنطقة وإلغاء «سايكس بيكو» إلى الأبد. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يمتد إلى الأكراد، وهم شعب بلا دولة تعداده عشرات الملايين، فبينما يعاني العراق من أزمات جمة، يستغل الأكراد الفوضى لتوسيع المناطق الغنية بالنفط شمال العراق المتمتع بالحكم شبه المستقل منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003، ويواصلون تهديدهم بالانفصال وإعلان الاستقلال الكامل، وفي شمال سوريا يعملون بسيطرتهم على 3 محافظات على الانتهاء من وضع خطط اتحاد سياسي متمتع بحكم شبه مستقل.
* وقفة:
أكثر ما يثير المخاوف أن تكون هناك تعديلات سرية ملحقة تجرى على اتفاقية «سايكس بيكو 1916»، تحمل اسماً جديداً هو معاهدة «كيري لافروف 2016»، تعيد ترتيب الأوراق في المنطقة، وتقضي على أمل إقامة دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين، وتؤجج الفتنة بين السنة والشيعة، وتعطي الأكراد حق إقامة دولتهم، ولم شملهم، من تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومن ثم تقسم دول المنطقة إلى دويلات، إثر اندلاع حروب أهلية وطائفية تسيل فيها دماء العرب من أجل أمن واستقرار إسرائيل، وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد مائة عام من غضب العرب، لإحلال خراب ودمار أكبر للعرب بالمنطقة!