فتحت فصول ذلك الكتاب المليء بالعظات والأحاسيس والمشاعر الفياضة لرجل عاش حياته لله، ونذرها من أجل أن يرسم الابتسامة والسعادة في نفوس أناس عاشوا حياة تسيطر عليها غشاوة الجهل والفقر المحدق.. إنها فصول كتاب عبدالرحمن السميط ذلك الرجل العظيم الذي تربع على عرش التطوع وعمل الخير، ولم يلتفت إطلاقاً إلى المناصب الدنيوية الزائلة، ووجه أنظاره إلى تلك القارة السوداء التي فاضت فيها بحار المخاطر والصعوبات.. منذ فترة طويلة وأنا أحدق ببصري إلى سيرة هذا الرجل العظيم كما أسماه الكاتب «عز الدين مراغب»، وحرصت على أن أتعرج إلى سيرته كلما سنحت لي الفرصة في ميادين العطاء، لأنه بالفعل قصة نجاح وعطاء وكفاح في كافة الميادين، وكان لي فرصة الالتقاء بابنه الدكتور عبدالله الذي زار البحرين مؤخرًا وقدم ورقة عن عطاءات والده رحمه الله.
ولعل السمت العام لشخصية عبدالرحمن السميط هو ذلك السمت المتزن الذي لا يهمه ما يقوله الآخرون، إضافة إلى التواضع وحب غراس الخير وبصمات العطاء المؤثرة، وهذا ما دعاني لأن يكون عنوان مقالتي الأسبوعية المتواضعة عن بعض الأسرار التي اكتشفها كل يوم من خلال معاملاتي الميدانية مع صنوف البشر، والتي تنتهي في غالب الأمر إلى تحديد أطر جديدة للمعاملة المرتقبة القادمة، وإلى خط حروف من نور في ساعات الحياة المتبقية، بما يتناسب ومدة البقاء في هذه الدنيا التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها محطة من محطات الاستراحة.. فقد اضطجع صلى الله عليه وسلم يوماً على حصير، فأثر الحصير في جنبه الشريف، فلما استيقظ، قال: «مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».
لقد تشربت حياة د. عبدالرحمن السميط ومنذ الصغر بحب العمل التطوعي من خلال التحاقه بالكشافة، ثم تسللت عطاءاته في ميادين الخير داخل الكويت وخارجها، حيث أمضى ما يقارب 35 عاماً في القارة السوداء جاب خلالها 30 دولة بخلاف القرى والمدن التي تنقل بينها مشياً على الأقدام من أجل أن ينشر رسالته التي عاش من أجلها.. إنها رسالة الإسلام الخالدة.. لذا فإن مكمن النجاح الأول للسميط يكمن في إرادته القوية وطاقته الإيمانية المدوية التي استطاع من خلالها أن يقدم نجاحات متتالية لم يفتر مع لحظاتها لحظة واحدة.. حتى وإن تعثر، فتراه يعاود القيام ليجدد المسير بهمة ونشاط عالٍ.. لقد جسد السميط في حياته معاني الاستخلاف في الأرض، والتي تعد أهم معنى ينبغي لكل معانق لأطياف العطاء الخيري أن يتمثل بها في حياته.. فقد كان بإمكانه أن يعتلي عرش الأغنياء، ويتربع على عرش الشهرة، ويستفيد من شهرته في إسعاد نفسه برغائب الحياة الزائلة.. ولكنه عاش من أجل أن يخدم الإسلام وينشر الخير والسعادة.. فإنما خلق الإنسان ليكون خليفة الله تعالى في أرضه يبلغ رسالته ويمتحن فيما آتاه الله تعالى من نعم سينظر عاقبة أمرها يوم تمتحن الخلائق بين يدي الرحمن..
من هنا تتحدد رؤيتنا الثاقبة للحياة، فهي رؤية لا تمكن نفسها من الاستغراق في الملذات، بل يهمها أن تكون في ميدان الجنان الخالدة، في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.. فيا ترى هل وضعنا جميعاً هذه الرؤية في كل يوم نستقبل فيه الحياة؟ هل كتبناها فوق جدران بيوتنا وأعمالنا وجميع حركاتنا وسكناتنا؟ رؤيتنا تتحدد بما نقدم وبما نعطي وبما نترك من أثر في أرض الحياة.. فليس كل عمل نقابله بطلب أموال.. وليس كل فعل نطالب من ورائه الشكر والامتنان.. وليس كل حركة نطلب من ورائها الشهرة والتمجيد.. فإنما نحن في محطة امتحان وتمحيص، وفي الغد ستنتهي قصتنا مع الحياة.. وسنرحل إلى عالم آخر هو نتيجة ذلك الظل الذي أظلنا في رحلة المسير..
إنها الرؤية التي تسعد بالعطاء الجديد.. تسعد عندما تساعد غيرها بلا مقابل.. وتسهر ليل نهار من أجل أن يعيش غيرها في راحة واطمئنان.. كانت هي أحد أسبابها الرئيسة دون أن يعلم عنها أحد.. فلا تفتخر ولا ترائي، ولا تلعب بالمشاعر من أجل المصالح الزائلة.. بل تبتغي أن تحصد في كل لحظة الأجر العظيم من خلال الأثر الراسخ الذي سيبقى في دنيا البشر، عندما تحين ساعة الرحيل الحاسمة.. يقول الشيخ عبدالرحمن السميط رحمه الله: «أجد طعم السعادة حينما أفتتح مدرسة في منطقة لم تعرف طعم التعليم.. أجد طعم السعادة حينما ترتفع سبابة إلى السماء تشهد لأول مرة بوحدانية الله تعالى..».
وأنا أجد طعم السعادة عندما أكون قريباً دائماً من ربي وأحس بتوفيقه ورضاه عني.. وأجد طعمها عندما أكون قريباً من أناس أحبهم ويحبونني ويبادلوني أسرار الحياة بعطاء ومحبة.. وأجد طعمها عندما أرسم ابتسامة على وجه أحدهم وقد أنتظر طويلاً حتى تأتي لحظة الفرح.. وأجد طعمها عندما يقدم لي أحدهم خدمة.. من أجل الله وليس من أجل أن أكتب له عبارات المديح والتبجيل وأرجع الفضل إليه.. وأجد طعمها عندما يمسك بيدي من أحب ويرشدني إلى طريق الله الأصيل المنقذ من التيهان.. وأجد طعمها عندما أرسم لوحة الخير، وأترك الأثر ويترجم إيماني العميق إلى معانٍ عملية في حياة البشر.. فسعادتي أن أخدم هذا الدين وأخدم وطني وأقدم الخير في كل الميادين..
* همسة:
عذراً لمن اعتقد بأنه مخلد في الأرض.. فعمل على سرقة أحلام غيره وفرص نجاحاتهم.. وظل يغرس خنجره في خاصرة العطاء.. عذراً فلن تضحك لك الحياة مجدداً.