ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فاختار الله أن يجذبه لرحابه في أرضه الواسعة وسماواته السبع، أمام مكر كبار كفار قريش وتكذيبهم له، وعداوتهم الشديدة من جانب، وفقدانه لأهم أعمدة حياته من جانب آخر «زوجته وعمه»، أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماوات القريبة من عرشه، أنها رحلة الإلهام لرسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، والتكليف العظيم والتشريف الكبير الذي يحمله وهو يجاهد بدين الله عز وجل، هي رحلة أرضية وسماوية عجيبة «لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير».
خص الله سبحانه وتعالى رسولنا الكريم بمعجزة عظيمة هي معجزة الإسراء والمعراج، لعلها تكون ملهمه لامته التي تأتي من بعده، ولعلها تكون محطة عبرة وموعظة لكل من يقرأ عنها ويطلع على تفاصيلها، في هذه الليلة العجيبة فرضت الصلوات الخمسين التي خففت إلى الخمس بعدها «خمس في الفرض وخمسون في الأجر».
هناك اختلاف بين العلماء في وقت تعيينها وأنها قد وقعت في شهر رجب أو غيره وليس الخلاف الحاصل مدعاة هنا لأن يحتار المسلمون أو ينشغلوا عن ذلك بمسألة ما توحيه إليهم.
لم يصدقه نفر من الناس ووجدوا أنه محال أن يكون قد أسرى به من مكة إلى القدس في ليلة واحدة ورجع، ولقد استهزأ به كفار قريش وكذبوه وهو يروي تفاصيلها وهم يدركون مكابرة أنه يقول الصدق، إلا أن أقرب الناس إليه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد صدقه القول.
تلهم قصة الإسراء والمعراج المسلم الكثير من المعاني والحكم، بل هي زاده في زيادة نور الإيمان في قلبه، معجزة المسير ليلاً، فسبحانه يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم، هناك من يتخذ من الليل مسيراً لأهوائه الخاصة، وهناك من يتخذه ستاراً لأعماله وأفعاله الضالة، وهناك من يرى في الليل مسيراً إلى الله، تقرباً إليه سبحانه. تلهم المسلم هذه المعجزة أن المسير في الدنيا ينبغي أن يكون إلى الله حتى تكون السماء مستقره الأبدي، كل مسلم مؤمن يفطن أن الليل الذي يقبل عليه هو فرصة لرحلة سماوية إلى الله تسري بروحه إلى سماواته العليا بعيداً عما يدور حوله على الأرض وتعرج بقلبه وكيانه إلى السماء الدنيا التي تشهد نزول الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إليها، قال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر»، المسلم وهو يفترش سجادته للصلاة في جوف الليل والتعبد والتجهد لهو يقضي رحلة سماوية تعرج بدعائه إلى الرحمن.
صلى رسولنا الكريم في ليلة الإسراء إماماً بالأنبياء في المسجد الأقصى، وبعدها عرج إلى السموات السبع، وفي رحلة المعراج جذبه الله من ضيق الدنيا إلى رحاب فضائه الواسع، وكأن الله أراد أن يهون عليه فأخذه إلى السماء العليا ليرى معجزاته في ملكه العظيم ويلتقي بالأنبياء.
وكما بين الشيخ الفاضل بن باز أن الرسول قد عرج به بعد السماوات السبع إلى مستوى رفيع فوق السماء السابعة حيث سمع صريف الأقلام التي يكتب بها القضاء والقدر، وفرضت الصلوات، عليه كما نهى علماء الدين عن البدع التي ربما يمارسها البعض في تلك الليلة، فالمسلم العاقل يدرك أن هذه الليلة لم تختص بنوع معين من العبادات، إنما هي ذكرى عظيمة للتمعن في حكمها ومعانيها وروحانياتها.
يقول الشيخ بن باز رحمه الله «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات (....)».