استوقفتني تلك اللحظات التي مر بها الأمريكي بلودز وورث لتجعلني أفكر لوهلة، كم من برئ خلف القضبان، وكم من مدان طليق، وكم من مجني عليه لم يجد السبيل والتوجيه لاسترداد حقه.
أدين بلود وورث في عام 1985 بوجود 5 شهود عيان بالقتل العمد واغتصاب فتاة تبلغ من العمر 9 سنوات، وفي عام 1992 بينما كان مسجوناً، طلب بلود وورث أن يتم فحص العينات والآثار المادية المتعلقة بالقضية بالطريقة العلمية الجديدة التي ظهرت في حينها، آملاً أن تكون النتيجة منفذاً للبراءة.
وبالفعل أعيد فتح ملف هذه القضية وتم البحث عن أي دليل يمكن أن يثبت مدى صدقه، إلى أن تم الحصول على ملابس المجني عليها وبها آثار لسائل منوي. وبفحص البصمة الوراثية تم إثبات براءته وأن تلك الآثار تعود لذكر آخر تم التعرف عليه لاحقاً في عام 2003. ويكون بلود وورث بذلك أضاع 9 سنين من حياته خلف القضبان دون وجه حق.
قد تكون تلك الأحداث حصلت في حقبة زمنية مضت، وبتنا أمام تكنولوجيا علمية عالية رفعت من قيمة الدليل المادي إلى أن اقترن بأهميته مع الدليل القولي أمام جهات التحقيق. إلا أن الحاجة تكمن في الوعي بمدى أهمية أي أثر مقترن بالقضية أو الجريمة في كونه مصدر إثبات أو نفي.فمسرح الجريمة عموماً يعتبر مستودعاً غنياً لأسرار أي جريمة كانت، يحتضن جميع الأدلة المادية ويعتبر الشاهد الصامت الذي لا يعرف الكذب والذي يقود المحقق والخبير الفني إلى معلومات مؤكدة مبنية على قواعد علمية تساعد بشكل كبير في حل الجريمة. والآثار المرفوعة تحتفظ بذاتية مصدرها. فالحفاظ على أي دليل مادي يعتبر أهم عامل للوصول للجاني، وهذا الأمر يتطلب الوعي الكافي من جميع الأطراف.فالعلوم الجنائية المتخصصة بفحص تلك الأدلة بدت ظاهرة ومعتمدة بشكل أوضح في عالمنا العربي مع بدايات القرن العشرين مع انتقال نظام الطب الشرعي إلى جمهورية مصر الشقيقة عن طريق الحملات الفرنسية والبريطانية.
ومنها برزت الأهمية لإدخال العلوم الأخرى المساندة في الإثبات الجنائي وإبراز أدلة الإقناع أمام المحاكم، بدايةً بالاستعراف عن طريق فصائل الدم والبصمات، وفحص السموم بالدم مروراً بالبصمة الوراثية ودراسة الخصائص الفيزيائية للأجسام والمستندات ففحص الأدلة الإلكترونية وغيرها. ومع التطور الكبير في الفحص والكشف عن الجريمة أصبحت جميع الأدلة إن كانت قوليه أو مادية أمام تقسيمان جديدان، في كون الدليل إما موضوعي أو شخصي. فالأخير يعتمد على مدى اقتناع المحقق بالشهادة والاعتراف وهو معرض للصواب والخطأ ويختلف من شخص للآخر، بينما الموضوعي فهو مبني على أسس علمية ونتائج يمكن رؤيتها ولمسها فبذلك تكون أصدق وأقوى تأثيراً على شخصية المستمع، فتلك الأدلة ملموسة ولا يختلف على هويتها اثنان.
يعتبر علم الجريمة عموماً علماً متجدداً، وأصبحنا نواجه جرائم ذكية وشخصيات إجرامية مبتكرة قد لا تترك آثاراً ترى بالعين المجردة، إلا أن التطور العلمي بالمجال تفوق على تلك العقليات فضمن بذلك حق المجني عليه في إثبات الجريمة على الجاني. لذا فأي دليل قد يترك أو أي حدث وإن كان صغيراً ويتعلق بالواقعة، يعتبر عاملاً مساعداً كبيراً يعتمد على المدعي والمحقق بشكل كبير. فلم يعد الاعتراف كما كان متعارفاً عليه لوحده سيد الأدلة.

خبير علم جنائي إدارة الأدلة المادية
النيابة العامة